ملاحظة : أصل هذا المقال محاضرة ألقيت في الندوة العلمية العاشرة في مدينة بوصاصو-الصومال .
نتناول في هذه الحلقة-بمشيئة الله تعالى- العنوان التالي :-
معالم مختارة من منهج الأنبياء في الدعوة والتغيير والإصلاح :
لا يخفى على المتأمل المساحة الواسعة التي تشغلها قصص الأنبياء في القرآن الكريم، وذلك لما لها من أهمية في اكثر من مجال ، ولا سيما مجال الدعوة؛ تاريخا ومنهجا، لذا كان لزاما على الدعاة الوقوف عند تلك القصص للتدبر واستخراج المعالم البارزة في منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله .
وفيما يلي إشارة موجزة إلى بعض منها :-
1- الدعوة إلى عبادة الله وحده عن طريق التعريف بالله والتذكير بآلائه والتخويف من عذابه . وهذا أمر ملاحظ بكثرة في المفردات الدعوية التي خاطب الأنبياء بها أقوامهم . ولهذا الموضوع نصيب وافر في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، وهو موضوع لم يغب عن ملاحظة فقهاء الصحابة ؛ ففي البخاري عن عائشة-رضي الله عنها- أنها قالت : إنما نزل أول ما نزل سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا. (البخاري:كتاب فضائل القرآن-باب تأليف القرآن ).
ويلاحظ أن أسلوب القرآن هو الاستمرار في التعريف بالله حتى في السور المدنية،كما في أول سورة الحديد:سبح لله مافي السموات والأرض وهو العزيز الحكيم. له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم مايلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير . له ملك السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور. يولج الليل في النهار ويولج النهار الليل وهو عليم بذات الصدور(الآيات:1،2،3،4،5،6)
بل يلاحظ أن القرآن يطالب المؤمنين بالإيمان تذكيرا بأهميته وتجديدا لشأنه ،كما في قوله تعالى في سورة النساء: ياأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل(الآية136)، وكما في قوله تعالى في سورة الحديدأيضا: آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه( الآية 7). ولا شك أن الإيمان تعتريه عوامل النقص والزيادة، ويحتاج دائما إلى عناية واهتمام خاص،وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم(الصحيحة :1585).
وللقرآن أسلوبه الخاص في عرض الأحكام حيث يربطها بالعقيدة والتخويف بالله واليوم الآخر، كما يلاحظ في آيات أحكام الطلاق وأحكام المعاملات المالية في سورة البقرة، مثلا ، وهذا يلفت نظرنا إلى ضرورة ان يمزج البناء العقدي في جميع البرامج التعليمية والتربوية ويصطحب في جميع المراحل ، حتى لا ينفصم العلم عن العمل .
وقد استمر اهتمام القرآن بالعقيدة، حتى قال العلماء إن آخر ما نزل من القرآن هو قوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توّفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون( البقرة :281).
ويلاحظ على الدعاة المهتمين بالعقيدة ، فضلا عن غيرهم، أنهم يركزون على توحيد الألوهية والمطالبة بإفراد الله بالعبادة ،دون اهتمام لائق بموضوع التعريف بالله وتعظيمه في قلوب عباده ، عن طريق أسمائه وصفاته وافعاله،الذي هو كمقدمة للأول ، فكأنهم يقفزون على المقدمات ويبحثون عن النتائج، ويطالبون باللازم وهو توحيد العبادة وقد تساهلوا في الملزوم وهو توحيد المعرفة والإثبات ، كما يلاحظ عليهم تدريس العقيدة بطريقة معلوماتية تحبس العقيدة في الإطار المعرفي المجرد فقط، وتقلل من فرص تحولها إلى طاقة تدفع إلى العمل وتنظم السلوك . وأحسب أن طريقة تناولنا للعقيدة تستحق دراسة مستقلة، لعل الله أن يقيض لها من يوفيها حقها.
2- ارتباط العقيدة بالأخلاق ومعاملة الخلق، أنظر الآية المشهورة بآية الحقوق من سورة النساء، وهي قوله تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ( الآية :36) والآيات المشهورة بالوصايا ، من سورة الأنعام، من قوله تعالى: قل تعالوا أتل ماحرم ربكم عليكم( الآيات 151-153) والآيات من سورة الإسراء، من قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا( الآيات 23-39) .
وهذا يدل على أن الاهتمام بأمر الأخلاق قديم في العهد المكي كقدم الاهتمام بالعقيدة، وأنهما كانا توأمين في ذلك العهد ، ولعل هذا يعيد الاعتبار إلى مكانة الأخلاق في سلم أولويات الدعاة ، ويضيف معلومة مهمة مفادها : أن التركيز في العهد المكي كان على العقيدة والأخلاق ، وليس على العقيدة فقط كما هو مشهور على ألسنة كثير من الدعاة ، إضافة إلى أن هناك أزمة أخلاقية في صفوف ( الإسلاميين) ،فقد أنتجت التربية غير المتوازنة جيلا لا يبالي بحقوق الخلق ، ويعتدي عليها أحيانا بحجة إرضاء الخالق، ولعل المراجعة تدفعنا إلى تقرير بعض الكتب في التربية حتى ننتج جيلا يعظم الحق ويرحم الخلق .
وهذا الارتباط ليس خاصا بالرسالة المحمدية ، بل هو ملاحظ في رسالات الأنبياء من قبل ، ويكفي للدلالة على ذلك ، أن يراجع القارئ قصة لوط وشعيب عليهما الصلاة والسلام .
3- البينة والبصيرة في الدعوة: هذه من المعالم البارزة في منهج الأنبياء ، فقد حكى الله عن أكثر من رسول أنه قال لقومه : أرأيتم إن كنت على بينة من ربي(هود :28،63،88) . وأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يعلن : قل إني على بينة من ربي( الأنعام:57) . وقال : قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني( يوسف :108) .
ويمكن تقسيمها إلى(ا) بصيرة بالعلم الشرعي في الأقوال والأفعال والإرادات؛ لأن القول على الله بلا علم أصل كل بلاء ومصدر كل شر، ومن المحرمات القطعية في جميع الشرائع السماوية، قال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها ومابطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون(الأعراف :33) وقال أيضا : ولا تقف ما ليس لك به علم (الإسراء:36). ومصدر هذه البصيرة هو العلم بالنصوص الشرعية والأقوال السلفية، بالنقل الصحيح والفهم الصريح . ويمكن الاستدلال هنا بقوله صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمع … الحديث (رواه الترمذي ) فدل الحديث على ضرورة التلقي والنقل الصحيح ، ويكون ذلك جيلا عن جيل، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم(رواه أبو داود وأحمد، الصحيحة :1784) وذلك حفاظا على النسب الديني ، وسدا للباب أمام من ليس له نسب معروف ولا نقل موثوق، بناء على قاعدة : سموا لنا رجالكم .
وقد أكد لنا السلف الصالح ضرورة تقدم العلم وتوفره في كل نشاطات الإنسان ، فضلا عن العبادات التي يتقرب بها إلى الله ، فمن فقه الإمام البخاري الذي في تراجمه أنه قال: باب : العلم قبل القول والعمل .
وهناك التباس في العلاقة بين العلم والدعوة ، ما بين من يرى التوقف عن الدعوة وعدم الاشتغال بها، حتى يصبح الفرد عالما،وفهم من ترجمة البخاري المذكورة ، أن يحوز جميع العلوم قبل أن يقوم بالدعوة، وما بين من يغلب عليه الحماس فيتساهل في هذا ويتكلم فيما لا يعلم، والصحيح أنه يشترط العلم بخصوص ذات القول والعمل الذي يؤديه الفرد،مهما قل أوكثر ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: بلغوا عني ولو آية ( رواه البخاري) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق : نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع ، ولو اشترطنا العلم خارج نطاق ذلك ، لكانت صورة المسألة:أن لا يتكلم أحد بما يعلم حتى يعلم ما لا يعلم، وهذا معلوم الفساد ، وقريب منه أن تقول : لا تتصدق مما تملك حتى تملك ما لا تملك .
ولعل هذا الخطأ نشأ من الخلط بين دور من يقوم بالتعليم والإفتاء وما يحتاجون إليه من المؤهلات، وبين دور من يقوم بنشاط دعوي فيأمر بمعروف أو ينهى عن منكر بعلم ورفق . ويبدوا أن هذا الخلط هو الذي أدى إلى أن يقوم بالدعوة العلماء فقط، وأن تقل الأنشطة الدعوية إلا في صورة حلقات العلم .
ومع ظهور فساد هذا الراي ، إلا أنه يعمل في الساحة بطريقة لاشعورية، ولعله وراء هذا الكم الهائل ممن يحملون قسطا من العلوم الإسلامية ، و لا يرون لهم دورا في الدعوة إلى الله ، مع حاجة الأمة الشديدة إليهم.
(ب) بصيرة بالواقع الذي تتعامل معه الدعوة ، وبالمدعوين وما يناسب مستواهم. فمن البصيرة بالواقع على حقيقته، قوله تعالى : فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ، ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل( هود : الآية ) وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : إنك تأتي قوما من أهل الكتاب … الحديث( رواه مسلم)،ومن العناية بالمدعوين ومراعاة ما يناسب مستواهم ، أثر علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله( رواه البخاري)، وأثر ابن مسعود : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة(رواه مسلم ) .(ج) بصيرة بالكيفية والوسائل والأساليب، والأصل فيها قوله تعالى : أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( النحل: 125 ).
وما أحسن أن نسوق تفسير العلامة السعدي لهذه الآية ، حيث يقول :
أي: ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم إلى سبيل ربك المستقيم المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح { بِالْحِكْمَةِ } أي: كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده.
ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل والبداءة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة، وإلا فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.
إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها، والنواهي من المضار وتعدادها، وإما بذكر إكرام من قام بدين الله وإهانة من لم يقم به.
وإما بذكر ما أعد الله للطائعين من الثواب العاجل والآجل وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان [المدعو] يرى أن ما هو عليه حق. أو كان داعيه إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا.
ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها. اهـ